بقلم : ابتهال صالح 
  عندما قررت نزول الميدان للمرة الثانية .. يوم الاثنين 21 نوفمبر .. بعد يوم السبت الدامي 19 نوفمبر .. قبيل الانتخابات البرلمانية بأسبوع تقريبًا .. كان الشعور الغالب هو شعور أحسست به قبلاً في 25 يناير .. حماس وإصرار على تحقيق هدف ...
 وبينما أنا في
محطة مترو الأنفاق  "الأوبرا" الساعة تقريبًا السادسة آخر النهار كان المترو المتجه من شبرا لفيصل ممتلئ على "أخره ".. يهرب الناس إلى بيوتهم من موت محقق في التحرير ..! بينما هناك أشخاص ذاهبون للموت بأرجلهم على المترو الآخر المتجه لأنور السادات ..!
جلست دقيقة أحدق في كل شيء حولي .. حاولت أن أغمض عيني.. أحاسب فيها نفسي .. وأعيد حساباتي .. ولِم اتخدت قرار مماثل ..؟! .. لماذا نزلت الميدان ؟! .. دائما ما يحتاج الإنسان ليسأل نفسه سؤال كهذا حين يقدم على أمر جلل كنزول الميدان مثلاً .. بمعنى أقرب .. استحضار النية .. " أنا نازلة ليه ؟! " .. 
حتى يشيرون علي .. " البت دي جدعة أوي .." !! ..
 أو .. " نزلتي ليه يا مجنونة ؟؟!!! " .. وأرى في عيون أحبتي خوفاً علي ..؟!! ..
أبرهن لنفسي أني شجاعة .. مقدامة .. "أنا بنزل وغيري لأ ..!!! "
شعرت عندها بدنو نفسي وكم هدفي هذا الذي استنتجته وضيع جداً .. حسيت أنا قد ايه زبالة ..! ماذا سيكون مصيري .. إن مُت هناك ؟! .. أو حتى أُصبت .. ؟! .. ماذا جنيت أنا بعد قولهم علي البت دي مية مية ؟!! .. هل سأُحاسب على كلامهم أمام ربي .. أم سأُحاسب على نيتي ؟!! هل سأشعر بالرضا و حلاوة ألم الإصابة كلما تذكرت هدفي الزبالة ؟!! .. بالطبع لا ..
عاتبت نفسي أشد العتاب .. ولمتها على فعلها ..
وجلست أحدثها ..
يا نفسي .. يا أنا .. لماذا قررت نزول الميدان ؟
·        لظلم مستمر أمام عيني لا استطيع تحمله في محاكمات لأخوتي وتعذيب مستمر .. وسفاح ينعم بسجن 5 نجوم ؟؟
·        تباطؤ وتواطؤ حكومة ومجلس جعل تحقيق العدالة في ظلهما امراً مستحيلاً ..؟!
·        لم أر تغييرًا في نظم المنشآت السياسية .. وخاصة الداخلية .. تربى أفرادها على القمع والذل و"سحل" وإهانة شعب فلم تصله ثورة يناير بعد ..؟!
·        إعلام مسبيرو المنافق المحرض .. عار على تمثيل إعلام مصر ؟!
·        سلطة المجلس الدكاتورية المطلقة المتعدية على صلاحيات حكومة "الثورة" التي تعد صفرًا على الشمال .." وملهاش أي تلاتين لزمة "..؟!
·        عدم استجابة للمطالب الشعبية من الإفراج عن أخواتنا المعتقلين عسكرياً الذين كانوا في الصفوف الأولى أيام 25 و 28 ؟! .. وغيرها كثير ..
 
يختلف معي البعض في ذلك أو يوافق .. ولكني في حديث مع نفسي وعقلي المقتنع بتلك الشواهد .. وغير راضي بها ..
ولكن الهدف الأساسي الذي قررت النزول له .. هو عهد مع الله على الاصلاح في الأرض ما استطعت .. حتى وإن رأى غيري أني أفسد فيها ..!!
 
دبت الحماسة في عروقي .. حتى أصبحت أرتعش بالفعل من الحماس ! وزادت ضربات قلبي وتنفسي .. حتى كدت لا أرى أمامي سوى الطريق الذي أود الوصول إليه .. الطريق الذي يشعرني بالسعادة والقيمة الحقيقة لحياتي .. الطريق المؤدي للميدان ..
 
تصفحت الفيس بوك سريعاً من موبايلي حتى أرى آخر التطورات الجارية في الميدان ..
" عشرات القتلى يسقطون في شارع محمد محمود المؤدي للداخلية .. "
" مجموعة بلطجية متوجيهن للميدان حاملين المولتوف والأسلحة البيضاء .. "
" قنابل الغاز المسيلة للدموع تنتشر في الميدان وحلات الاختناق بكثافة .. "
انقبض قلبي بشدة .. أحسست بأني ذاهبة لمعركة متفحمة والإصابة فيها لا محالة .. وهي إما لنصر أو شهادة .. استحضرت النية مجدداً .. زادت رعشتي خوفاً وحماساً .. ركبي ترتعش حتى أحسست أنها لا تحملني لوهلة .. ! ولكني ركضت نحو الميدان ..
 
لأول مرة أدخل ساحته ليلاً .. أحسه كئيباً مظلماً نفحات شجاعة وأمل وإصرار اشتمها .. حزن وفزع وخوف .. مع عزيمة تهد جبال .. تلك المشاعر المختلطة التي تنابني أنا أيضًا تدخل أنفاسي وتخرج .. مع رائحة الغاز الذي أثقل التنفس وضبب المكان ..
 
كان الجو هادئاً يشوبة قلق .. عما كنت أتوقع أو قرأت من أقاويل على صفحات الفيس .. فمن يجلس خلف الشاشة لا يشعر بما يحدث داخل الحدث نفسه .. ولكني كنت مترقبة ..أشخاص كثر متجمعون على أطراف الميدان ووسطه بشكل مكثف لم أتوقعه في يوم كهذا .. كما لم أتوقع عجائز يتصدون للغازات ..! .. ولا سيدات كبار .. ولا بنات كثر كما رأيت .. ولا توقعت أن أجد أطفالاً .. ولكني وجدت !
 
اختلفت أشكال الكمامات وألوانها .. أخترت لي واحده ووضعتها كدرع .. أفخر به كلما رأيته في حقيبتي ..  زجاجات الخل مع الشباب يوزعونه على الموجودون .. قبل أن يكتشفوا أنها تزيد من الطين بله ولا تصلح مع القنابل الجديدة .. موديل 2011-2012 ..!!
تسليتهم هناك عربيات البطاطا والذرة والفشار .. ! رأيت امرأة تبكي حولها بناتها .. فضولي جعلني اسأل ما يبكيها .. ولدها مات خنقاً يوم السبت الدامي ..!! ..
 
شعرت أن التاريخ يعيد نفسه بدرجة أدهشتني .. وكنت أسمع كثير يقولون أجواء 25 يناير عادت من جديد للميدان .. وقولت يهولون ويجاملون ... ولكني بالفعل أحسست بتلك الروح تعود من جديد .. لا أدري أهي متعلقة بالجو البارد ؟! .. أو هي روح نقية نظيفة تظهر كلما ازداد الظلم ؟! .. لا أدري .. ولكنها روح طالتني وشعرتها ..
 
حتى أن الكلام يعيد نفسه .. والخطابات .. وردود فعل الناس .. مفارقات عجيبة .. وأعجب منها أن الناس لا يجدون أي خطأ في أن يُضحك عليها مرتين .. في عام واحد !! ..
ويرجع الفضل كله لمسبيرو ومذيعين مسبيروا والقناة الأولى والثانية المصرية ..
فنفس الاتهامات .. " بلطيجة في الميدان ومظاهرات فئوية .. مئوية ..! "
وبعضها ما يضحك .. " قوات الأمن والجيش تعمل على تأمين الميدان من البلطجية .."
فقوات الأمن تحمي المتظاهرين .. من أنفسهم ؟؟!!
وكثرت حالات التوتر .. والتبول اللا إرادي للمذيعين .. فترى شريط الأخبار يعرض أخبار متناقضة كل دقيقة والأخرى .. فلا حرج يقع على ماسبيرو فقد رُفع عنه القلم نهائياً .. !!
 
بعد مرور ساعة تقريباً سمعنا صوت رصاص يطلق .. وغازات تنتشر .. وصوت قنابل تقذف علينا داخل الميدان .. ركضنا .. وأمسك بها أحد الأبطال  وقذفها بعيداً .. عجزت أنفاسي عن الخروج .. وأحسست أني اختنق .. تذكرت الخل وضعته على وجهي .. حاولت الصمود ولكني لم استطع ..  بقيت بعدها لمدة ساعة أو أقل .. وقررت العودة لتأخر الوقت ..
 
صباح اليوم التالي .. في مترو الأنفاق طريقي للكلية .. كان صباحاً مستفزاً بحق .. فبعد عن سمعت حديث ممل يدور بين ربات بيوت ليس لهم في أي حديث غير الطبيخ والمطبخ .. أصبحوا يتحدثون في السياسة .. ويترحمون على أيام مبارك .. !!
جلسوا لمدة نصف ساعة يسبون ويقذفون أولئك الموتى والشهداء والمصابين وأصحاب العاهات جراء " سحل " قوات الأمن المبجلة والشرطة العسكرية الطاهرة .. !!
حاولت الحديث معهم ورد حق أولئك الناس الذين يُسَبون .. فلم يسمعني أحد .. من بحة صوتي جراء الغازات المستنشقة ليلة البارحة .. كانت أصواتهم تدب المكان ..
" أنا واحدة قربتي بتقول مصورين اللي قاعدين هناك دول ومعاهم وجبات كنتاكي وأزاير حاجة ساقعة ومية معدنية وعايشين هما وموقفين حال البلد .." !!! ..
صدقوني الكلام يعيد نفسه وسمعته بأم أذني ..
" الله يخربيتهم منهم لله .. يارب بقى يموتوا ويريحونا .. " !!
" مش فاهمة أنا الراجل شحط قاعد هناك ومبيت وسايب ولادوا ومراتوا لوحدهم .. ايه الرجالة اللي معندهاش نخوه دي ولا بتفهم في حاجة .. ؟! " ..!!
" الإخوان هناك بياخدوا تمويل سعودي .. وتعالي اتفرجي على الحاجات بقى اللي بتدخلهم التحرير .. " !!
جلست اتخيل معهم قليلاً .. عبايات خليجي .. سبح .. مصليات وعطور وسجاجيد .. بتدخل الميدان ؟!! .. أمال مشتفتش أنا الكلام دا ليه إمبارح .. وروحت البيت بكيس أسود مليان ؟!!
ولكني تذكرت الجثث المنقولة على موتسيكلات .. وتذكرتها أيضاً في الزبالة .. !! وعجبت لماذا تذهب الناس هناك لتموت .. بينما يمكنها أن تأخذ بطاطين وعطور وعبايات ؟؟!!
حتى بكيت داخلياً .. والدموع تنحسر بين جفني .. حتى أحسست أنها تتقطع .. !
 حتى وجدت فتاة بجانبي شعرت أنها لا يعجبها الكلام فجلست أشرح لها ماذا تقول لتلك الأمهات الغير واعيات ثقافياً وأخلاقياً بسب الموتى .. ولكني فشلت .. وكادت رأسى تنفجر من الصداع المفاجئ ..
.. أحسستهم مساكين .. لا يعلمون ما يدور داخل الميدان ..
غلابة .. أثرت عليهم الاشعاعات السامة المنبثقة من مسبيرو طوال ال 30 سنة .. فغيبوا عقلهم الواعي .. وأصبحوا يتحدثون بمبدأ الخوف واكل العيش وعجلة الانتاج .. و"هنخرب البلد" ..!!
بالفعل أشفقت عليهم وعلى وضعهم ..
فهم لم يعلموا حتى الآن هؤلاء الموتى قد ضحوا بحياتهم من أجل أن ينعهم هؤلاء ذوي العقليات السطحية بعيشة آمنة هادئة عادلة سليمة .. خالية من الفساد والتخلف والظلم ..
واسألوا أهل العشوائيات ماذا يريدون بالإضافة للقمة العيش ؟؟
( أمن عيش حرية عدالة ) ..
...............................
تختلف معايا تنتقدني .. على عيني .. هتقولي كفاية بقى إحنا انتخبنا خلاص ..

كلمة كانت في حلقي وعايزة أطلعها .. :-)   

0 التعليقات

إرسال تعليق

إذا كنُّا قدمنا لك الفائدة من خلال الموضوع المعروض لا تنس وضع تعليقك ورجاءً عدم وضع روابط إعلانية