هذه ليست دعوة للحزن وإنما هى أمر من الله إلى المؤمنين حيث قال تعالى "لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ٍ" (الحديد:23)

    سعى الإسلام - ابتداءً - إلى تصحيح معتقد الناس تجاه ما يجري في هذه الحياة الدنيا، حين أعاد الأمر كله لله تعالى؛ مُلْكاً وخَلْقاً، ومشيئةً وقضاءً، لذلك بدأ الآية بتلك المقدمة: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .........} [الحديد : 22-23].
     إن الله وهو يربي عباده ويقوِّم سلوكهم - يبين لهم أنه - تعالى – قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق الأرض، فكل مصيبة أو نعمة تصيب الإنسان هى أمر مقدَّر في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلائق بخمسين ألف سنة.

   فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به، أيقن أن هذا المقدَّر لا يدفعه سخط ، ولا ينجي منه جزع، عندها يضبط انفعالاته بضابط الشرع، سواء فيما اتصل بحزنه ، أو بفرحه   
   
ولهذا قال فى ختام الآية: " وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ " أي: متكبر فظ , معجب بنفسه, فخور على الناس بنعم الله, ينسبها إلى نفسه.
    وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ثم قرأ "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
      أما قوله تعالى:((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ))[القصص:76]؟  فهذه الآية نزلت في قصة قارون: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" والمراد بذلك الفرح الذي يصحبه الكبر والبغي على الناس والعدوان والبطر واحتقار الناس.
 
      إن ترف قارون ومرحه جعله أنموذجاً لكل الأصناف، التي صدرت منها صور من الفرح المذموم؛ فقارون من اليهود الذين عُرف عنهم حب المال وعبادته, وتقديم الفرح به على كل شيء. وقد كان من بني إسرائيل, قومِ موسى, وكان من أعبد بنى إسرايل وأقربهم لموسى عليه السلام وكان فقيرا فقال لموسى عليه السلام:"ادعو لى ربك أن يغنينى" فقال له:"ولكن هل توفى حق الله لو أصبحت غنيا؟" قال:"نعم" فآتاه الله تعالى مالاً كثيراً, فرح به فرحاً جعله يتجاوز الحد, فتطاول على قومه, وأعرض عن الاعتراف بفضل الله, وتجاهل الحقوق الواجبة عليه, فاستحق بذلك ما استحق.
    ويقول الباحث:زيد عمرو عبد الله فى البحث الذى قام به بعنوان:"الفرح..دراسة قرآنية تربوية": لقد ذكر الفرح في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً، هذا الفرح المذكور في القرآن قسمان: مطلق ومقيد. مطلق لم يقيد بسبب للفرح وهو مذموم ، ومقيد ينقسم إلى قسمين: مقيد بالدنيا وهو مذموم كالقسم الذي قبله، أو هو الفرح بفضل الله ورحمته وينقسم أيضاً إلى قسمين: فرح بالمسبب وفرح بالسبب. أما الفرح المطلق فقد ذكر في خمسة مواضع بالقرآن. والمقيد بالدنيا ذكر في ثلاثة عشر موضعاً.والمقيد بفضل الله ورحمته ذكر في أربعة مواضع موضع واحد للفرح بالمسبب وثلاثة للفرح بالسبب.. أى المؤمن يفرح بصاحب النعمة وهو الله والكافر يفرح بالنعمة ذاتها.
    فقد قال ربنا تبارك وتعالى:"ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور  ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور" (هود:9،10)  فهذا فرح مطلق ولهذا فهو مذموم. يخبر الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين عن طبيعة الإنسان أنه جاهل ظالم لأنه إذا أذاقه سبحانه منه رحمه كالصحة والرزق والأولاد ونحو ذلك ثم نزعها منه فإنه يستسلم لليأس وينقاد للقنوط فلا يرجو ثواب الله تعالى ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها أو خيراً منها عليه. وإذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته أنه يفرح ويبطر ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، فيفرح بما أوتي مما يوافق هواه، ويفخر بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على البطر والإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق واحتقارهم وازدرائهم. وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضدّه، ولهذا أعقب الله تعالى هاتين الآيتين بقوله تعالى: "إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات" صبروا إذا آتاهم الله نعمة ثم نزعها منهم، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير..لذلك فالمؤمن يقول إذا جاءته المصيبة:"اللهم اأجرنى فى مصيبتى واخلفنى خيرًا منها" وبذلك يكون مطمئن البال لا يصاب بالاكتئاب أو الأمراض النفسية والذبحة الصدرية  إذا لم يرزق بالأولاد أو ضاعت أمواله فى البورصة أو تأخر به سن الزواج أو فقد عزيزا ....إلخ.. بل يكون راضيا فى كل الأحوال.
    وأما القسم الثاني: الفرح المقيد بالدنيا فنجده فى قوله تعالى: "...........فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" أي من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. "حتى إذا فرحوا بما أوتوا" من الدنيا. "أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" أي آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب أن يؤخذوا على غرة وغفلة وطمأنينة ليكون أشد لعقوبتهم وأعظم لمصيبتهم.
)
الأنعام:42-45).

    هذا ويقول علماء النفس عن انفعال الإنسان بالفرح والحزن أنه في حالة حدوث الإنفعالات بشكل مستمر ودائم يترتب عليه العديد من التغيرات الفسيولوجية مما يؤدي إلى حدوث تغيرات عضوية في الأنسجة وينشأ في هذه الحالة ما يسمى بالأمراض النفسية – الجسمية أو( السيكوسوماتية) . ومنها قرحة المعدة وإرتفاع ضغط الدم.
  حيث يؤثر الإنفعال على تفكير الفرد ويقلل من قدرة الشخص على إصدار الأحكام الصحيحة كما يؤثر أيضا على الذاكرة ويقول علماء النفس أنه لتقليل أضرار الانفعالات والسيطرة عليها يجب جعل الطاقة الانفعالية في أعمال مفيدة حيث يولد الانفعال طاقه زائدة في الجسم  ، وهذا ما نصحنا به الإسلام حين قال أنه عند الفرح بنعمة يجب أن نسجد سجدة شكر لله لنخلص الجسد من هذه الشحنات الكهرباية الزائدة المضرة بالجسم.
وقال سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]. يعنى الفرح والحزن بمقادير الله.
          إن الصبرالمأمور به شرعاً خير ضابط لانفعالات الإنسان, وأفضل معين على زينة الدنيا وفتنتها, والصبر أكمل وأكثر نفعاً من الضوابط التي وضعها الفلاسفة وعلماء النفس.
     لأن الإنسان - بصفة عامة - غيرُ متَّزن تجاه انفعالاته، وما يَعْرض له، وأكد القرآن الكريم هذه الصفة في مواضع منها: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [ المعارج:19-21]، والهلع: قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها أو ما يسرها، أو عند توقع ذلك والإشفاق منه.
    لذلك فقد حرص الإسلام على تهذيب الفرح وتوجيهه ؛ لإبراز الجانب الإيجابي منه، ولاستثماره بما يعود على النفس بالخير والسعادة..وأرشدنا التوجيه القرآنى لضبط الانفعالات عموما حتى لا يقع الإنسان فريسة للأمراض فيتخلف عن أداء دوره ورسالته فى الحياة.

     فلا يخلو الفرح من آثار سلبية، بخاصة إذا بُني علي أساس غير صحيح، يقول ديكارت: "إن انفعالَي الفرح والحزن حين يكونان متساويين في الاستناد إلى أساس خاطئ؛ فإن الفرح في العادة يكون أشدَّ ضرراً من الحزن".
  
    وأكثر من هذا؛ فإن الفرح قد يؤدي إلى الموت، بخاصة أن الفرح يأتي فجأة ، وفى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنة ما يُعِين على تفهُّم هذا الرأي، فقد قال في وصف فرح أهل الجنة: ((فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة فيها والبقاء، لماتوا فرحاً)).
     لقد ذكر القرآن الكريم فرح الشهداء (وهو الفرح المقيد بسبب)، وهم الذين هانت عليهم أرواحهم في سبيل الله؛ فماتوا من أجله؛ فامتد فرحهم في الآخرة؛ يقول الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران : 169-170].

   إنه فرح متميز لفئة مخصوصة بالتكريم, تفرح عند ربها فرحاً يليق بهم في مقامهم ذاك, وقد أشارت السُّنَّة إلى بعض مظاهره، حين ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تروح وتغدو أينما شاءت، تتمتع بنعيم الجنة, يفرحون بما آلت إليه حالهم بفضل الله تعالى.


    وفي قصة سليمان - عليه السلام - مع ملكة سبأ, صورتان متقابلتان لفرح المؤمن وفرح الكافر: لقد فرح أهل سبأ بهديتهم التي حُملت إلى سليمان, وهي شيء تافه إذا ما قيست حتى بنعيم الدنيا, وقد ظنوا أن نبي الله سليمان سيفرح بالهدية كما فرحوا: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:35-36].

   أجابهم سليمان – عليه السلام - باستنكار: أنتم وحدكم الذين تفرحون بمثل هذه التوافه, أما نحن، فإنَّا نفرح بما آتانا الله من إيمان؛ فهو مصدر الفرح الحق.

    والمرح مذموم أيضا فقال تبارك وتعالى:"ولاتمش في الأرض مرحا" والمرح شدة الفرح.
       وفى ذاكرة كل منا حوادث مؤسفة سُمعت أو شوهدت, أعقبت فرحاً, فأعقبها حزن - كالتهور في قيادة السيارات مثلاً - كان القصد منها التعبيرَ عن الفرح؛ فأدت إلى حالات وفاة, أو إعاقة دائمة تظل ماثلة أمام الناس, ومن العجب أنها نشأت بسبب التعبير عن الفرح, يقول ديكارت  "إن دفع الأشياء التي تضر، ويمكنها أن تهدم أهمُّ من اكتساب الأشياء التي تضيف كمالاً، نستطيع أن نستمر في الحياة بدونه".

وقد سبق الشرع الحكيم إلى هذا المعنى في القاعدة الفقهية الشهيرة التي تقول: "دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة".


0 التعليقات

إرسال تعليق

إذا كنُّا قدمنا لك الفائدة من خلال الموضوع المعروض لا تنس وضع تعليقك ورجاءً عدم وضع روابط إعلانية